بواسطة Mada Admin | 15 يناير 2010

عندما يحترق الوطن: اشتعال الكرمل والحالة الكولونياليّة

نديم روحانا وأريج صّباغ خوري*

أثارت مشاهد الحريق الذي التهم جزءًا من جبال الكرمل لأيام متواصلة في أوائل هذا الشهر وردات الفعل الإسرائيلية والفلسطينية مشاعر عميقة ومتداخلة بخصوص وعي الفلسطيني لعلاقته بوطنه، وعلاقته بالآخر الإسرائيلي، ومشاعره نحو علاقة الإسرائيلي بهذا الوطن. وصلت النيران الملتهبة في جبال الكرمل إلى طبقات من الذاكرة الجماعية ما زالت جمرتها متقدة، وكشفت جوانب من تعابير الحب والحميمية للوطن ما زال الفلسطيني في وطنه يتجنب المجاهرة بها في بعض الأحيان والمواقع، وأحضرت تساؤلات مكبوتة عن ذلك الذي سلب الوطن وأراد مصادرة حب أهله له. كذلك أثار عنفوان النار ووقوف إسرائيل عاجزة أمامها وتعاطي المجتمع والإعلام الإسرائيليين معها برمزية لا تُخفى اختلط فيها لدى الفلسطيني الحس البديهي بواقع اللا معقول مع الفكر المتأني في هذا الواقع. 

«والوافدون ـ 
بحارة ومغتصبون 
يزيلون الحواكير 
ويدفنون الأشجار. يمنعوننا من إطالة النظر 
إلى زهور البرقوق وعصا الراعي 
ويحرمون علينا لمس البقول 
والعلت والعكوب». 

(طه محمد علي ـ قصائد، 2006، ص 40) 


لا يخطر في بال الإسرائيلي انه عندما يحترق الكرمل فإن الفلسطيني ـ ذلك الموجود في وطنه وذلك الذي في المنفى ـ يشعر بأن جزءًا من وطنه يحترق. فالإسرائيلي الذي صادر الوطن الفلسطيني بأرضه، ووديانه، وتلاله، وسهوله، وصحرائه، وأزهاره وأشجاره أراد أيضًا مصادرة علاقة الفلسطيني بوطنه وتحريم حبه له، حتى يصبح الوطن له حصرًا ـ أرضًا وبيتًا ومعنىً وحبًا.
وفي العلاقة الكولونيالية فإن الإسرائيلي الذي أشاع وصدق ما أشاع أن الوطن له حصرًا يدخل حالة من الخوف إذا ما أبدى ابناء الوطن الأصليين وبناته علاقة بوطنهم، ويدخل حالة من الاستنفار إذا ما أبدوا حُبًا لوطنهم. أما الفلسطيني الواقع تحت الهيمنة الإسرائيلية فإنه يقارع الكولونيالي في الحيز العام، في القضايا السياسية، وفي حيزه الخاص، فهو في حالة حب مع وطنه تبدو أحيانًا سرية وفي أغلب الاحيان لا يجاهر بها في الحيز المشترك مع الإسرائيلي الذي يعتبرُ هذا الحب تهديدًا له وربما اعتداءً عليه. لا مكان للحديث عن حب الوطن في الحيز المشترك.

باقون في الأرض

باقون في الأرض

يُشكل هذا الحب تهديدًا للإسرائيلي إلا إذا نجح في «حفر الوعي الفلسطيني» بأن وطنه ضائع لن يعود، وأنه أصبح مقيمًا في وطن الشعب اليهودي وفي دولة اليهود. عندها يصبح التعبير عن عشق الوطن، ربما تحرشًا أو اشتهاء مقتنى غيرك، أو في أحسن الأحوال تعبيرًا عن نوستالجيا للوطن الذي ضاع، يتم التسامح معها من الليبرالي الذي «يتفهم» ذلك «كـإحساس إنساني». 
يعبر الفلسطيني عن علاقة حبه لوطنه في حيزه الخاص، في الفن والشعر والغناء والفلكلور والموسيقى. لكنه مهما حاول أن يعبر فإن علاقة حبه بوطنه لا تصل إلى الكولونيالي، أو تصل اليه كما يريد هو أن يراها. ويعلم أصحاب البلاد أن هذا الحب يخيف الإسرائيلي، وأن التعبير عنه هو «موقف متطرف» ومهدد للإسرائيلي. ولأن الكولونيالي يرفض أن يرى هذا الحب لأنه يعتبر نفسه العاشق الوحيد، فإنه يحمِّل العربي مسؤولية إضرام النار، ويصبح الفلسطيني هو المتهم الطبيعي في كل نارٍ تضرم في طبيعة الوطن. 
يتحول التهديد الذي يشعر به الكولونيالي من حب الفلسطيني لوطنه إلى غضب إذا ما عبر الفلسطيني عن حبه بانتمائه إلى وطنه بأن يقول مثلاً «هذا وطني» او «هذا الكرمل لي». أو كما قال محمود درويش في الجدارية: «هذا البحر لي... ولي ما كان لي». هكذا حدث حين طرد أحد أعرق الصحافيين الإسرائيليين بغضب عضو برلمان عربي في بث تلفزيوني حي ومباشر في كانون الأول 2009 من استديو التلفزيون الإسرائيلي عندما ذكّر المذيع الذي اهانه بأن الاستوديو وجامعة تل أبيب الذي يبث منها يقومان على ارض قرية الشيخ مونس العربية المهجرة والمدمرة منبهًا أياه إلى انه «لي ما كان لي». وصرخ مذيع مشهور آخر في كانون الأول 2010 بعضو برلمان عربي آخر في بث حي ومباشر عندما حاول عضو البرلمان الدفاع عن اتهام العرب بإضرام الحرائق بقوله: «الكرمل هو لي». ففي حين فضح المذيع الأول حين فقد السيطرة على نفسه أن الإسرائيلي يشعر أنه «السيد» أمام العربي، كشف المذيع الثاني أحد جوانب الحالة الكولونيالية المستعصية ـ الهلع. وحين صرخ «قل إن الكرمل هو لي أنا أيضا». ولكن لا يخطر ببال هذا المذيع «اليساري» أن يتحدى حب اليهودي للكرمل ولا يطالبه بمشاركة الفلسطيني في ملكيته.
وكشف الحريق عن جانب آخر من جوانب الحالة الكولونيالية الخاصة التي أنتجتها الصهيونية في فلسطين. وربما يكون لتعبير «السكان غير اليهود في أرض إسرائيل» بعد نفسي بعمق البعد السياسي. فإن هذا التعبير لا ينكر على الفلسطيني علاقته بالوطن فحسب، ويحرّم عليه التعبير عن حبه له وملكيته عليه فحسب، بل يستكثر عليه أن تكون علاقته بقريته ومحيطها علاقة وطنية او علاقة أصيلة (authentic). فحين دأب الإسرائيلي على التدمير المنهجي للوجود الفلسطيني في الدولة التي أقامها على الوطن، وبنى على أنقاض القرى وفي المدن الفلسطينية بلدانًا ومدنًا تعبّر شكلاً وهندسةً «معماريةً، وسكانًا، وقوانين وأسماء، ومشهديةً وثقافةً عن القيم الصهيونية والاستثنائية اليهودية التي يذكرنا بها صباحًا وظهرًا ومساءً بشكل استحواذي، فإنه لم يترك للفلسطيني من زاوية في الوطن يشعر به في الحميمية إلا بيته وقريته ومحيطها الذي أُبقي له. وتصبح العلاقة بالقرية او بالحي العربي تعبيرًا عن علاقته بوطنه الحاضر الغائب في آن معًا. وبسبب الغربة التي أنتجها الواقع الاستعماري في باقي أجزاء الوطن تشدّدت العلاقة المحلية حتى وإن كانت القرية قد تحولت إلى شبه غيتو. وصارت العلاقة مع «البلد» هي احد انواع التعبير عن العلاقة مع الوطن والبيت والمكان الآمن. وصارت أقوى من علاقة المواطن ببلدته في ظروف عادية. فحين يُسأل الفلسطيني المقيم خارج الوطن إذا كان سيسافر مثلاً هذا الصيف يقول «نعم سأذهب إلى حيفا»، «إلى الناصرة» او «إلى ام الفحم» ولا يقول سأسافر إلى إسرائيل ـ لأنه في الواقع لا يسافر إليها بسبب غربته عنها وفيها ولا يسافر إلى فلسطين ـ لأنه في غيابها انحصرت فلسطين في بلدته.
كشف حريق الكرمل كيف أن الكولونيالي لا يقبل حتى هذه العلاقة، وينكر على المستعمَر أن تكون له حتى هذه الحميمية ذات الجغرافيا المحدودة. فالكرمل لأبناء قرى الكرمل وبناته، هو جزء من مشهدهم اليومي وحياتهم اليومية. وهو من دون فلسفة أو تنظير جزء من هويتهم، يحوطهم من جميع الجهات، يتصبحون به ويتمسون به، يتنفسوه، ويستدخلون نسيمه وألوانه وأعشابه وأشجاره ويعتادون عنفوان شتائه وبهاء ربيعه ورقّة صيفه، ويعودون إليه كمأمن. كثيرون منهم يعرفون تضاريس مناطقه كما عرفها آباؤهم وأمهاتهم، ويعبرون عن حميميتهم بإعطاء الأسماء الخاصة للتلال والجبال والوديان والربا التي كانت «الزرّاعة» ، و«باب الهوى» و«رأس النبع» وأصبحت بقدرة مستعمر «جبعات ألون» و«هار شوكيد». ولولا أن غالبية سكان عسفيا ودالية الكرمل ـ القريتان العربيتان اللتان بقيتا على جبل الكرمل ـ هم من الدروز الذين يخدمون في الجيش الإسرئيلي وأذرعه الأمنية لكانت أصابع الاتهام ضد العرب من الكرمل بإضرام النار أشد وأقوى. ومع ذلك لم يتردد الإسرائيلي في اتهام العربي بإضرام النار، الا أنه أعاد صوغ التهمة للأسباب المذكورة. فحتى لو خدم الدرزي في الجيش (وربما لأنه يخدم في الجيش) لا يُعطى احترام ان تكون له علاقة أصيلة مع بلده، وكرمله وأحراشه ـ هذه لليهودي وحده، خدم في الجيش أم لم يخدم. الا أن الخدمة في الجيش أدت بالإسرائيلي إلى أن يحول تهمة إضرام النار من نيات عدوانية تخريبية إلى إهمال صبيّ يبطّن الحديث عنه كيف ان الأصلانيين العرب (والدروز بلغة المستعمِر) لا يقدرون الطبيعة ولا يحترمونها. 

ظاهرة محيّرة
أفصحت الانتخابات الإسرائيلية التي جرت في 10/2/2009 عن ظاهرة لافتة وهي أن 73% من اليهود يعتبرون فلسطينيي 1948 خطراً على الدولة الإسرائيلية، وعلى مصيرها كدولة يهودية. ومن بين هؤلاء هناك 31% يريدون ترحيل الفلسطينيين من ديارهم. ومع ذلك فإن 30% من المقترعين الفلسطينيين كانوا يصوتون للقوائم الصهيونية لأسباب مصلحية بالطبع. غير أن هذه النسبة هبطت في انتخابات 2009 من 30% إلى 18%، وهبطت النسبة العامة للتصويت من 63% إلى 54%. 
هل إن هذا الهبوط سببه ازدياد الوعي الوطني، أم انخفاض النسبة العامة للتصويت؟ 
ومهما يكن الأمر، فإن المحيّر حقاً هو أن العرب، حيال الدعوات العنصرية إلى ترحيلهم، كان من المتوقع أن يقترعوا بقوة لمصلحة القوائم العربية، ولا سيما لقائمة التجمع الوطني الديموقراطي. ولو فعلوا ذلك حقاً لتمكنوا، على الارجح، من أن يزيدوا محصلة مقاعدهم إلى نحو 17 مقعداً.

 

حبّ سريّ أم حبّ منسي؟ 

تؤلم السرية في العلاقة مع الوطن حين تحافظ عليها السلطة الفلسطينية عندما ترسل مركبات المطافئ التابعة للدفاع المدني للمشاركة في إخماد الحريق. وجاء إرسال مركبات المطافئ الفلسطينية بعد التنسيق بين الجنرال الإسرائيلي الذي ينسق أعمال الحكومة في «مناطق الضفة الغربية»، وبين الوزير الفلسطيني المسؤول عن دائرة الشؤون المدنية في السلطة. وعرضت مساهمة السلطة الوطنية على أنها مساهمة في إخماد حريق في بلدٍ مجاورٍ.
وعبر الكولونيالي عن شكره لصاحب الوطن على المساندة في إخماد حريقٍ في الوطن. وطن من؟ وكان قد نشر ان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو قدم امتنانه، هاتفيا، إلى الرئيس الفلسطيني محمود عباس «لمشاركة فرق الدفاع المدني الفلسطيني في اخماد النيران التي اندلعت في جبال الكرمل شمال إسرائيل». ونقلت وكالة «وفا» تأكيد الرئيس الفلسطيني خلال الاتصال الهاتفي مع نتانياهو على انه في مثل هذه الظروف لن يتوانى الشعب الفلسطيني عن تقديم مساعدات انسانية. ورد نتانياهو على كلام عباس قائلا: انه «يجب ان يساعد الجيران بعضهم بعضا دائما».
ويحتاج هذا التبادل الدبلوماسي مقالة منفردة لتحليله وفهم معانيه. ولكن يكفي أن نلاحظ انه لم يخطر في بال الإسرائيلي ان هذا الفلسطيني يساهم في إنقاذ وطنه وكرمله هو من الحريق. هل يعود عدم فهم الإسرائيلي إلى ان السلطة الفلسطينية عبرت عن استعدادها للمساعدة «الإنسانية» في إخماد الحريق؟ أم هل يعود ذلك إلى أنه لا يخطر في بال الإسرائيلي ـ كما سبق وذكرنا ـ إن الفلسطيني يحب وطنه؟ أم ربما ان الإسرائيلي يعلم أن السلطة لا تنظر إلى الكرمل على أنه جزء من الوطن الفلسطيني؟ ولماذا لم تعبر السلطة ولو بالتلميح عن القلق على الكرمل واحتراقه؟ هل لأن مثل هذا التلميح قد يثير عاصفة دبلوماسية، وبذلك يبقى الحب سّرًا لا تجوز المجاهرة به؟ ام لأنه حُفر في وعي مسؤولي السلطة أن الكرمل أصبح جزءًا من «وطنٍ ضائعٍ لن يعود»؟ وأي الحالتين أكثر قسوةً؟ 

عين حوض: النار توقد الذاكرة 

بين أحراش الكرمل وعلى سفوحه المطلة مباشرة على المتوسط بقيت قرية عربية اسمها عين حوض. وعين حوض هجرت مثل غالبية قرى الساحل والسفح الفلسطيني ولكنها كانت القرية المهجرة الوحيدة التي بقيت مثلما كانت. والقصة الطويلة تختصر بأن فنانًا مرموقًا زارها سنة 1953 واحب البيوت العربية وطلب إقامة قرية للفنانين فيها بدل هدمها من أجل تشجيع السياحة. وبينما تم محو القرى الاخرى عن الذاكرة بالهدم وإزالتها كليًا عن وجه الأرض وزرع الأحراش والغابات فوقها، فإن محاولة محو عين حوض من الذاكرة تمّ عن طريق تحويلها إلى قرية يهودية وإعطائها اسمًا معبرنناً «عين هود». واحتلت بيوت القرية شريحة من المفترض ان تكون أكثر شرائح المجتمع حساسية، وهي شريحة من الفنانين. وعندما تزور قرية عين حوض مثلما زرناها تستطيع ان تلمس جمال القرية المتجسد بيوت الحجر العربية، وبهندستها المعمارية التي شملت الحاكورة والشارع الضيق، والشجرية والشبابيك الطويلة. وعندما تدخل إلى البيت لتسأل اصحابه الذين اتوا من جميع بقاع الأرض ليتمتعوا بالقرية المسلوبة ترى أن هناك استوديوهات فنية مقامة في بيوت ذات سقوف عالية وبلاط جميل وعقود عربية تقليدية، تتحدث إليك بلغة مألوفة. وتتعجب كيف يتعامل هذا الفنان «الحساس» مع هذا الواقع. وعندما تسأله يعطيك إجابة تعتمد الاكروباتيكا النفسية المعهودة التي اتقنها الكولونيالي من أجل الكذب على الذات. 
وكما هو معروف فإن مهجري قرية عين حوض تحولوا إلى لاجئين في أماكن مختلفة داخل الوطن وخارجه. إلاّ أن جزءًا منهم نجح في ان يبقى في ضواحي بلدته وتحولوا إلى مهجرين يسكنون قرية صغيرة أقاموا بيوتها بجانب قريتهم الاصلية، اعترفت بها إسرائيل قبل سنوات قليلة بعد صراع طويل مع السلطات وسميت بعين حوض الجديدة. 
وعند اشتعال الحريق في بعض بيوت عين حوض القديمة لم يكن هناك أي ذكر في الإعلام الإسرائيلي لتاريخ القرية الفلسطيني، وان هذه البيوت هي عمليًا غنيمة من غنائم حرب عام 1948. وقد عُرض الحريق على انه حريق في قريتين واحدة يهودية وهي «عين هود» وواحدة عربية وهي عين حوض. واظهر الحريق وتعامل المجتمع الإسرئيلي وإعلامه مع «عين هود» وعين حوض كيف ان المشروع الصهيوني نجح في تغييب التاريخ الفلسطيني وكبت الذاكرة لدى الاجيال الإسرائيلية الجديدة. وأصبحت «عين هود» قرية يهودية من غير طرح أي تساؤل. أما بالنسبة إلى العربي في عين حوض وخارجها فقد أرجع الحريق بعضًا من زخم الذاكرة الفلسطينية. فبينما كانت «عين هود» مهددة بالإحتراق كان الخوف الفلسطيني ان تحترق القرية الفلسطينية المنكوبة المسلوبة، الباقية والضائعة. كان الخوف أن تضيع مرة أخرى حتى لو كان المقيمون فيها فنانين يهود. 

الرمزية في الحدث: الحريق ومستقبل إسرائيل 

لم يكن مستغرباً ان يتعامل المجتمع والدولة الإسرائيلية مع الحريق كمشروع عسكري. فقد سادت اللغة العسكرية في تغطية الحدث، وكأنها اللغة الوحيدة التي يُتقنها الإسرئيلي. لذلك فإن إطفاء الحريق تحول إلى «الحرب على الحريق»، أو أصبح «الانتصار على الحريق». واستعملت المصطلحات العسكرية في تغطية عملية الإطفاء ووصلت ذروة اللغة العسكرية في تصريح اعطاه لرئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو «ان الحرب على الحريق سوف يتم حسمها من الجو». 

مفارقة عجيبة
الفلسطيني من عرب 1948، أي الذي بقي في أرضه، واضطر إلى أن يحمل الجنسية الإسرائيلية، هو «مواطن إسرائيلي» بحسب القانون، وله حق الانتخاب والترشح إلى الانتخابات التشريعية والتقدم إلى العمل في وظائف الدولة. لكن هذا «المواطن» لو طالب بأراضيه التي وُضعت تحت سلطة «القائم على أملاك الغائبين»، ولتكن هذه الأراضي في بلدة ترشيحا مثلاً، لانقلبت الحال فوراً، فيصبح المواطن «غائباً» تطبق على أرضه، وعلى حقه في ملكيتها، قوانين أملاك الغائبين.

ويتبادر إلى الأذهان السؤال عن تركيز المجتمع الإسرئيلي على الجهوزية العسكرية، فهو عادة ما يرى محيطه من فوهة البندقية، ويرى العالم من منظور أمني ويشدد على القوة بمفهومها التقليدي الضيق. وكانت نتيجة ذلك إهماله لمتطلبات الحياة المدنية مثل البنى التحتية العصرية، إذا لم ترتبط ارتباطًا عضويًا بالعسكرة. وإذا تعاملنا مع الحريق كإشارة رمزية، في النهاية، فإن التعامل مع جميع القضايا من خلال التوجه العسكري سيؤدي إلى الحريق. 
لم يخفَ على الفلسطيني ولا على الإسرائيلي الرمزية الحاضرة في هذا الحريق. ويتمثل جزء من الرمزية في السؤال المركزي عن استطاعة إسرائيل الاستمرار في الوجود، وهل مشروعها قابل للعيش إذا لم تستطع السيطرة على حريق وإن كان كبيرًا. وحين خرج الحريق عن سيطرتها تذكرّ المجتمع الإسرائيلي دينامكية خروج الأمور من السيطرة التي برزت خلال الحرب على لبنان عام 2006، وبعد الحرب على غزة عام 2009. فلدى الإسرائيلي في الفترة الأخيرة شعور بالخطر الوجودي المحدق. وفي الفترة الأخيرة أيضا أُثيرت تساؤلات متكررة عن إمكانية عدم استمرار المشروع الصهيوني. ومن المثير ان عددًا كبيرًا من مقالات الرأي التي تُنشر في الصحف العبرية في السنوات الأخيرة تبدأ وتنتهي في أن إسرائيل في حالة خطر وجودي. ودخل الوعي بهذه الحالة بخطوات واثقة إلى الفكر الإسرائيلي بعد الحرب على لبنان، وتعزز بعد الحرب على غزة، وبالذات بعد قضية الهجوم على قافلة السفن التي كانت في طريقها إلى غزة. وازدادت التخوفات داخل إسرائيل حين طُرحت تساؤلات عن شرعية إسرائيل في العالم وبعد الأزمة مع الولايات المتحدة. وفرض الحريق رمزيتة بقوة مدهشة في الوعي العام. وبسبب هذه الرمزية ارتبطت الأسئلة عن الحريق، بأسئلة جوهرية تتعلق باستمرارية الدولة نفسها. فمثلاً أثيرت الأسئلة عن معنى عدم قدرة إسرائيل على «مواجهة» الحريق وحدها. فإذا لم تستطع إسرائيل التعامل مع الحريق كيف ستستطيع التعامل مع التحديات الكبرى؟ واحتاجت إسرائيل لمساعدة دول عدة لإخماد الحريق وعلى رأسها روسيا والولايات المتحدة. ويحضر ذلك إلى الأذهان الحالة الخاصة التي هي إسرائيل. فقد كان قيام إسرائيل بقرار دول أجنبية وتثبيت مشروعها بمساعدة دول أجنبية، وما زال بقاؤها نفسه مرهون بالدعم والتأييد الأجنبي الكثيف. 
وعلى الرغم من ان الإسرائيلي المتوسط يرفض ان يرى مسؤوليته في التسبب في الصراع وفي استعمال العنف والاقتلاع وفي الحرب التي شنتها إسرائيل ويرى أن العالم ضده، لربما يعلمه الحريق أنه لولا دعم العالم ومساعدته كان من الصعب على الدولة العسكرية اخماد الحريق وحدها، مثلما أن من الصعب الحفاظ على بقائها. 

الحريق في الوطن وفي دولة إسرائيل 

رؤية الفلسطيني للحريق هي رؤية مركبة وتعامله معه معقد. فمن ناحية يتألم الفلسطني من إحتراق الكرمل، وهو أحد أجمل مناطق الوطن (ولذلك صار أحد رموزه). ومن ناحية اخرى يرغب الفلسطيني في ان تُكشف هشاشة إسرائيل وفي أن يدرك الإسرائيليون أن الخطاب والممارسات العسكرية والأمنية والاعتماد على القوة والعنف سوف تؤدي إلى الهلاك. 
ولا ينكر كثير من الفلسطينيين قوة العلاقة التي انتجتها إسرائيل بين الوطن وبين اليهودي الإسرائيلي. فعلى الرغم من قيام إسرائيل كمشروع كولونيالي الا انها أنشأت علاقة بين الإسرائيلين وبين الوطن. ويؤدي الوعي بوجود هذه العلاقة إلى ألم دائم بسب ظروف إنتاجها من خلال الطرد والعنف ضد السكان الاصليين. وصار التحدي لدى الفلسطيني يتجلى في أسئلة مركزية منها مثلاً: كيف تكون الطريق لأن يعيش الفلسطيني ـ في الوطن وفي المنفى ـ والإسرائيلي في هذا الوطن؟ و كيف يجاهر للإسرائيلي عن حبه للوطن ويقنعه ان هذا هو وطنه؟ ولكن من ناحية أخرى كيف يقنع الفلسطيني في باقي أجزاء الوطن وفي الشتات ان هذا الكولونيالي الذي احتل الوطن وسلبه، طوّر علاقةً حقيقية مع وطننا رغم الألم المترتب على هذا الإدراك.
احتراق الكرمل يعيد إلينا طبقات من الذاكرة ويطرح بقوة وضوح الحالة الكولونيالية الإسرائيلية ويحفزنا على ان نجاهر بحبنا وأن لا نخاف من المستعمِر. ولكن في الوقت نفسه يحثنّا على التفكير في مستقبل يكون لنا فيه وللمستعمِر المتحرر من كولونياليته مكان في هذا الوطن بحيث لا يحترق الكرمل ولا يحترق الوطن. 

نديم روحانا هو المدير العام لمركز مدى الكرمل ـ المركز العربي للدراسات الاجتماعية التطبيقية. وأريج صباغ خوري هي زميلة بحث في مدى الكرمل ـ المركز العربي للدراسات الاجتماعية التطبيقية.

للمقالة الأصلية اضغط هنا.

 

الاكثر قراءة